هل يجوز الحلف بالمصحف أو بالكعبة ؟
س : بالمناسبة .. هناك صيغتان لا أعرف هل يجوز الحلف بهما أم لا .. وهما مستخدمتان كثيرا بين الناس .. وللأسف كثير من المُتدينين لا يعرف هل يُنكرها عليهم أم لا .. هاتان الصيغتان هما القسم ب (المُصحف) والقسم ب (الكعبة الشريفة) ..
ج : إعلم يا أخي وفقك الله .. أن التعظيم كما قلت لك لا يجب إلا في حالتين فقط .. أن يكون لله .. أو أن يكون لشيءٍ يُنسَبُ لله تعالى .. فإذا فهمت ذلك جيدا فسوف تستطيع الحكم بنفسك في هذا الأمر إن شاء الله تعالى .. ومن هنا يتضح لك الفرق بين أن أقسم فأقول (أقسم بكلام الله) وأن أقول (أقسم بالمصحف) .. فالصيغة الأولى تجوز .. وذلك لأن الكلام هنا اكتسب صفة العظمة بإضافته لله تعالى .. أما الصيغة الثانية لا تجوز .. وذلك لأن المصحف ليس عظيما بذاته .. فهو يتكون من أوراق ومِداد (أي حبر) وغيره ..
كذلك أيضا – وبنفس المبدأ – يجوز القسم بهذه الصيغة (أقسم ببيت الله) .. ولا يجوز بهذه الصفة (أقسم بالكعبة الشريفة) .. فالكعبة ليست عظيمة بذاتها .. ولكنها تكتسب عظمتها بإضافتها لله تعالى ..
والخلاصة أنه لا يجوز أن تقسم فتقول (والمصحف) أو (والكعبة) ..
ويحضرني هنا سؤالٌ سأله لي أحد الإخوة منذ قريب .. عن أنه في قريته في مصر لا يقبلون الحلف بالله أبدا !!.. ولكن الحلف المُعتبر عندهم أن يحلف أحدهم ب(المصحف) أو عليه .. أو يحلف بالله وهو يضع يده على المصحف !! ..
فقلت له : يا أخي .. اسألهم : أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل هذا ؟ .. فقال لي : لا .. قلت : أكان يفعله الصحابة من بعده ؟ .. قال لي : لا .. قلت : هل تعلم أحدا من السلف – وحتى القرون القريبة – كان يفعل مثل هذا ؟ .. قال لي : لا .. قلت : إذا قل لهم ذلك .. وأخبرهم بالحديث الصحيح " من كان حالفا .. فليحلف بالله أو ليصمت " ..
هل يجوز أن نقسم بما قسم به الله في القرآن ؟
س : فتح الله عليك يا شيخ .. والله لقد أوضحت لي فعلا كثيرا من الأمور الهامة في عقيدتنا .. والتي لا يعرفها كثير من الناس للأسف .. ولكنني أريد أن أسأل عن شيء ما .. هذا الشيء هو : هل يجوز لنا أن نحلف أو نقسم بما قسم به الله تعالى في القرآن ؟
ج : الإجابة أخي الكريم هي : لا ..
لا يجوز القسم بما أقسم به الله تعالى في القرآن .. وذلك لسببين :
1- أن الله تعالى وحده هو الذي يعرف مدى قيمة وعظم هذه الأشياء التي أقسم بها .. فقد أقسم مثلا في القرآن الكريم ب :
(والتين والزيتون * وطور سينين * وهذا البلد الأمين) .. (والنجم إذا هوى) .. (والطور) .. (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) .. (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس * والليل إذا عسعس * والصبح إذا تنفس ) .. ( لا أقسم بهذا البلد * وأنت حِلٌ بهذا البلد * ووالدٍ وما ولد ) .. (والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهدٍ ومشهود ) ... إلى آخر ما أقسم به الله تعالى في كتابه الكريم .. والذي لو تكلمت بالشرح عن كل واحدة فيها لأخذت مثل ضعف هذه الرسالة مرتين أو أكثر !!.. ومع هذا أيضا فلن أستطيع ولن يستطيع أحد أن يُلمَّ بكل ما فيها من عظمة .. فلا يعلم عظمة هذه الأشياء إلا خالقها عز وجل .. إذن فلا يقسم بها إلا الله ..
2- ثانيا عدم جواز الحلف بغير الله تعالى كما أوضحنا ذلك منذ قليل .. فلا يجوز أن نترك القسم بالله الخالق لكل شيء .. ونقسم بمخلوق من مخلوقاته !!
ملاحظات مهمة حول القسم في القرآن ..
س : بما أنك ذكرت هذه الأمثلة من القرآن .. فأنا أتمنى من الله تعالى أن أتمكن من قراءة معاني القرآن وفهمه .. ولكن حتى يتيسر لي ذلك .. فأريدك أن تتفضل علي بذكر أهم الملاحظات على هذا الحلف بالقرآن .. والتي ترى أنها من الممكن أن تخفى على مِثلي ممن لا يقرأون كثيرا في الدين ؟
ج : يا أخي .. إن الفضل بيد الله وحده .. فأنا ليس عندي فضل علم .. ولكن الله تعالى بفضله وكرمه يرزقني ويرزقك .. واعلم أن ما أزيده عنك ، هو ما تتكاسل أنت عنه !!.. وما علي أنا وأنت إلا أن ندعو الله بما أخبر به في القرآن فقال : " وقل ربِ زدني علما " طه – 114 ..
أما أهم الملاحظات التي أعتقد أنه لا يعرفها كثير من المسلمين اليوم للأسف هي :
1- الملحوظة الأولى .. تعدد صيغ القسم في القرآن ..
حيث استخدم الله تعالى القسم في القرآن بأكثر من صيغة ..
فهناك نوع مثلا من القسم يستخدم فيه (واو القسم) وذلك كقوله :
والطور .. والنجم .. والليل .. والشمس .. والضحى .. والفجر .. والنازعات .. إلى آخر ما جاء في القرآن من هذا النوع ..
وهناك نوع آخر باستخدام (لام القسم) .. وذلك كما أقسم الله تعالى بحياة وعُمر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن فقال :
" لَعَمرُكَ إنهم لفي سكرتهم يعمهون " الحجر – 72 ..
وأخيرا هناك نوع من القسم لا يلتفت إليه كثير من الناس وهو : (القسم مع النفي) .. مثل : (لا أقسم بهذا البلد) .. (لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنفس اللوامة) .. (فلا أقسم بالخنس) .. (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم ) ..
فالآيتين الأخيرتين تؤكدان بوضوح أن هذا النفي هو نوع من أنواع القسم .. بل وإن شئت فقل إنه من أقوى أنواع القسم .. حيث أن الله تعالى بعد أن قال : " فلا أقسم بمواقع النجوم " أعقبها مباشرة بقوله : " وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم " ..
فيصور لنا الله تعالى أنه من عظمة ما يقسم به هنا .. فكأنما لا يحتاج إلى قسم لبيان عظمته .. فدل هذا النفي في القسم على إثبات العظمة المُبالغ فيها لهذا الشيء ..
2- الملحوظة الثانية .. وهي أن معظم ما أقسم به الله تعالى يلهث العلم الحديث الآن للكشف لنا نحن المسلمين عن بعض أوجه العظمة فيه وهو لا يدري .. فالكفار في العالم ينفقون المليارات في سباق الاكتشافات والعلم .. وهم في الحقيقة يُزيدوننا أيمانا يوما عن يوم بصدق ربنا جل وعلا فيما أخبر في قرآنه أو على لسان نبيه الأمي صلى الله عليه وسلم !!
ولن أستطيع شرح ذلك الآن .. ولكني أعدك بتخصيص مجموعة كبيرة من الرسائل التي تتعرض للإعجاز في القرآن والسنة في كل شيء إن شاء الله تعالى ..
3- الملحوظة الثالثة .. هناك دوما بعد القسم ما يُسمى ب(جواب القسم) .. وهو الشيء الذي أقسم عليه الله (أي السبب الأصلي الذي من أجله جاء القسم) .. وهو دوما الكلام الذي يبدأ بعد انتهاء صيغ القسم ..
شرح لبعض الكلمات التي أقسم الله بها في القرآن ..
4- الملحوظة الرابعة .. وهي أن بعض ألفاظ القسم تحتمل أكثر من معنى أو مغزى .. ولذلك فقد اختلفت أراء العلماء في تفسير بعض الآيات منها .. وذلك مثل الآية الثالثة من سورة البروج : " والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهدٍ ومشهود " .. فاختلفوا في من هو الشاهد ومن هو المشهود على أكثر من قول – وهذا جائز طالما لم يحدد النبي صلى الله عليه وسلم فيها معناً محددا - ..
فمنهم من قال : أنها تنطبق على أي شاهد وأي مشهود عليه يوم القيامة .. وهو أكثر الأقوال شمولا .. ومنهم من قال : يوم الجمعة الشاهد والمشهود عليه المسلمون .. ومنهم من قال أنه يوم عرفة .. والقول الأول أعم وأشمل وأصح في رأيي ..
وبهذه المناسبة سوف أذكر لك سريعا بعض أهم معاني ما جاء من كلمات القسم في القرآن الكريم وأعتقد أنها قد تخفى على الكثير من الناس .. وهي غير مُرتبة بترتيب السور .. ولكن ما سيأتي في خاطري فسوف أخبرك به ..
أولا سورة الطور : ( والطور ) هو الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عليه في صحراء سيناء .. ( وكتاب مسطور ) وهو القرآن الكريم المسطورة فيه آياته .. ( في رقٍ منشور ) أي في صُحُفٍ منشورة للناس ومقروءة .. ( والبيت المعمور ) وهو الكعبة بيت الله الحرام .. وهو معمور دوما بالملائكة تحج وتطوف إليه في السماء .. وبالبشر يحجون ويطوفون إليه في الأرض .. ( والسقف المرفوع ) وهي السماء التي تعلونا وتحفظنا من أخطار كثيرة .. وتحمل الغازات التي تحتاجها الأرض وتحمل السحاب الذي يزن عشرات الأطنان .. وكل ذلك بغير عمد !! .. ( والبحر المسجور ) وهو البحر المملوء بالنار !! وقد اكتشف العلم الحديث – بل وقد صوروه لنا – كيف أن بداخل البحر في بعض الأماكن مخازنا عملاقة للحمم البركانية التي يمكن أن تخرج في أي وقت !! كما قال الله تعالى في آية أخرى في مكان آخر ( وإذا البحار سجرت ) !!
ثانيا سورة الواقعة : ( فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسمٌ لو تعلمون عظيم ) يُخبر الله تعالى هنا الإنسان أن مواقع النجوم ليست آيةً هينةً ولا سهلةً كما يظن البعض .. وكان الناس في الماضي يعرفون – بالفطرة – أن ذلك بالتأكيد لابتعاد النجوم عنا كثيرا جدا .. ولكن العلم الحديث الآن زاد على ذلك ما كنا لا نتوقعه أبدا .. أتدرون ماهو ؟ ..
إن هذه النجوم تبعد عنا ملايين المليارات من الكيلو مترات وأكثر !! ولذلك فإننا لا نرى هذه النجوم مباشرة .. ولكننا في الحقيقة ننظر لضوئها الذي سافر عنها منذ آلاف السنين أو أكثر !!! .. بمعنى آخر .. فنحن يمكن أن نشاهد نجما في السماء في نفس الوقت الذي يكون قد مات فيه فعلا وانتهى منذ آلاف السنين !!! ولكننا ننظر للضوء الذي ما زال يواصل رحلته في طريقه إلينا منه قبل أن يموت !! وذلك بالطبع لعظم المسافة بيننا وبينه ...
ثالثا سورة البلد .. ( لا أقسم بهذا البلد ) أي مكة .. ( وأنت حِلٌ بهذا البلد ) أي وأنت يا محمد بهذه البلدة مكة .. ( ووالد وما ولد ) فيها أكثر من رأي ولكن أشهرها هو آدم وكل ذريته من بعده ..
رابعا سورة التين .. ( والتين والزيتون ) وهما ثمرتان معروفتان .. وطالما أقسم الله تعالى بهما فإنهما تحويان بالتأكيد من الخير والفائدة أكثر بكثير مما اكتشفه الانسان فيهما حتى الآن .. والثمرتان كناية عن بلاد الشام – فلسطين – والقدس حيث مركز انطلاق رسالة عيسى عليه السلام .. وذلك لأن هذه المنطقة اشتهرت دوما بهاتين الثمرتين .. ( وطور سينين ) أي وجبل الطور بسيناء .. وهو مركز انطلاق رسالة موسى عليه السلام حيث كلمه الله تعالى عليه .. ( وهذا البلد الأمين ) أي وأخيرا مكة .. وهي مركز انطلاقة الدعوة الخاتمة .. والرسالة الأخيرة في وحي السماء .. رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ..
والغريب في هذه الآية .. أنه هناك مثلها في كتاب العهد القديم (التوراة) عند اليهود والنصارى !! وذلك في سفر التثنية الإصحاح ال (33) – وجاء فيه : " فقال : جاء الرب ( أي ناموس ورسالة الله ) من سيناء .. وأشرق لهم من سعير ( اسم قديم لجبل في القدس ) .. وتلألأ من فيران ( اسم قديم لجبال حول مكة ) " !!!..
خامسا سورة العاديات .. ( والعاديات ضبحا ) يقسم الله تعالى بالخيل التي تعدو في سبيل الله للجهاد .. ( فالموريات قدحا ) أي والتي من شدة عدوها تشعل النار باحتكاك حدواتها بالأرض .. ( فالمُغيرات صبحا ) أي والتي تهجم وتُغير على العدو بالصباح ( فأثرن به نقعا ) أي والتي تثير الغبار الكثيف نتيجة عدوها القوي ( فوسطن به جمعا ) ثم أخيرا التي تتوسط جمع العدو أثناء القتال ..
سادسا سورة القيامة .. ( لا أقسم بيوم القيامة ) أي أقسم بيوم القيامة يوم الحساب يوم يُساق العباد إما لجنةٍ وإما لنار .. ( ولا أقسم بالنفس اللوامة ) أي وأقسم بالنفس اللوامة وهي نفس المؤمن والتي تلومه دوما على ارتكاب المعصية .. أو على تفويت الحسنة .. فنفس المؤمن اللوامة هي ضميره الحي الذي يحيا بين جنبيه ..
سابعا سورة النازعات .. ( والنازعات غرقا ) يقسم الله بالملائكة التي تنزع أرواح الكفار بشدة وغلظة .. والعرب تطلق لفظ غرقا على الشيء الشديد الصعب .. ( والناشطات نشطا ) وهي الملائكة التي تنزع أرواح المؤمنين برفق وسهولة وكأنها تفك عقدة بسيطة منشوطة في حبل .. ( والسابحات سبحا ) وهي جموع الملائكة التي تسبح في السماء صعودا وهبوطا بأوامر الله تعالى بالرزق وقبض الأرواح وحفظ المؤمنين وملازمة المصلين ...الخ .. ( فالسابقات سبقا ) وهي الملائكة تتسابق وتتسارع لتنفيذ أوامر الله تعالى في كونه .. ( فالمدبرات أمرا ) وهي الملائكة التي تقوم بتنفيذ ما أوكله الله إليها من أوامر تدبير شئون الكون ..
ثامنا سورة التكوير .. ( فلا أقسم بالخنس ) والمقصود بها النجوم .. وكل ما يختفي ويضمحل فهو خانس – مثلما قلنا من قبل على الشيطان في آية ( الوسواس الخناس ) وقلنا إنه يخنس عند ذكر الله – فالنجوم تختفي وتخنس مع ظهور النهار .. ( الجوار الكنس ) أي والتي – أي النجوم – تجري وتنتقل في أبراجها المعلومة في السماء وكأنها تكنس السماء .. حسنا .. هذا هو التفسير القديم .. ولكن العلم الحديث قد يعطينا أيضا تفسيرا آخرا غريبا جدا ..
هذا التفسير قيل بالحرف الواحد في أحد أشهر كتب العلم الحديث والتي تتحدث عن ظواهر الكون .. وبالأخص في الفقرة التي تتعلق بالحديث عن ( الثقوب السوداء ) !! حيث قال الكتاب ما معناه :
" إن الثقب الأسود هو عبارة عن ( نجم فاني ) ( قد خنس ضوءه واختفى ) ولكنه بقي يجوب الفضاء من حوله ( كمكنسة عملاقة ) تبتلع كل ما يقابلها " .. فسبحان الله !! (فلا أقسم بالخنس * الجوار الكنس ) ..
هذا .. ولولا التطويل .. ولولا وقت الرسالة لزدتك من شرح آيات وكلمات الله تعالى في قرآنه .. ولكني أعدك بتخصيص من وقت لآخر رسالة أقوم فيها بتفسير بعض آيات سورة من السور .. وكل ما أستطيع أن أنصحك به هو : ألا تكون ممن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم يوم القيامة أمام الله : " وقال الرسولُ يا ربِ إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا " الفرقان – 30 ..
فلا تهجر القرآن أبدا .. لا قراءةً ولا فهما ولا تفسيرا ولا عملا .. واجتهد في ذلك يفتح لك الله تعالى أبواب العلم والبركة ..