لقد تقدم فيما سبق بيان معنى "الحقوق" اصطلاحاً ، وتطبيقاً لذلك المعنى بإطلاقه على ما ورد في القرآن الكريم ، يتبين لنا أن هناك نصوصاً شرعية كثيرة وردت على سبيل الإلزام في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم من النواحي الشخصية والاجتماعية والمالية وغيرها ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي الأول "للحقوق" ، كما أن هذه النصوص نفسها حددت المطالب الواجبة لأحد أو لصنف من الناس على غيرهم ، وهذا هو المعنى الاصطلاحي الثاني "للحقوق" ، وفيما يلي أذكر بعضاً من تلك النصوص الشرعية القرآنية، مشيراً إلى تطبيق هذين المعنيين من خلالها :
1) قول الله تعالى :] وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون ¥ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون[() فهذا النص القرآني يتضمن ذكر واجبات ومطالب ، جاءت على سبيل الإلزام المؤكد بأخذ الميثاق والعهد الشديد على بني إسرائيل بأن يؤدوا ما أمروا به وافترض عليهم في الآيات() ، وقد تقدم في السورة نفسها ذكر هذا الميثاق والأمر بالأخذ به بجد وقوّة ، كما قال تعالى :] وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون [() .
قال الطبري فتأويل الآية إذاً : خذوا ما افترضناه عليكم في كتابنا من الفرائض فاقبلوه ، واعملوا باجتهاد منكم في أدائه ، من غير تقصير ولا توان ، وذلك هو معنى أخذهم إياه بقوة ، بجدٍ )() اهـ .
وظاهر من خلال الآيات أن بعض ما ذكر فيها ، إنما ورد في تنظيم علاقات الناس فيما بينهم من الناحية الاجتماعية كالأمر بالإحسان إلى الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين ، والأمر بالقول الحسن ، أو من الناحية المالية كالأمر بإيتاء الزكاة ، أو من الناحية الشخصية كالنهي عن قتل النفس ، وكل ذلك داخل في مفهوم "حقوق الإنسان" تطبيقاً للمعنى الاصطلاحي .
وقريب مما جاء في تلك الآيات ؛ ما ورد في الآيات الجوامع للوصايا والحقوق والواجبات ، ومنها :
2) آية الحقوق في سور النساء ، وهي قوله تعالى :] واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم [() .
3) ومثلها آيات الوصايا العشر في آخر سورة الأنعام ، وهي قوله تعالى :] قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ¥ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون [() .
4) ومثلها أيضاً وصايا سورة الإسراء ابتداء من قوله تعالى :] وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً .. [ إلى قوله :].. كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً [() .
- وجملة ما في الآيات المتقدمة : أنها تتضمن حقوقاً ومطالب وواجبات ، أُمر بها المسلم على سبيل الإلزام ، جاءت لتنظيم علاقات الناس فيما بينهم من النواحي المختلفة ، فقد أشارت الآيات إلى بعض حقوق أصناف من الناس كالوالدين والقرابة واليتامى والمساكين والجار القريب والجار الغريب والصاحب الصديق والمسافر المنقطع والعبيد والإماء ، فلكل صنف من هؤلاء حقوق خاصة به ، أشير إليها بإجمال في الآيات ، كقوله مثلاً :] وآت ذا القربى حقه [() ، وحقه : صلته وبره والعطف عليه() ، وقد جاء تفصيل تلك الحقوق وبيانها في آيات أخر وفي السنة النبوية ، وظهر تطبيقها العملي في السيرة العطرة ، وأفرد العلماء كتباً وأبواباً ومصنفات لجمع تلك الحقوق وشرحها وتوضيحها وبيان أحكامها().
- ومن جهة أخرى: فقد تضمنت الآيات حقوقاً عامة جاء الأمر بها والنهي عن ضدها على سبيل الإلزام ، منها: العدل ، والوفاء بالعهد ، وحفظ النفس ، وتحريم قتلها بغير حق، ووفاء الكيل ، والميزان بالعدل والقسط ، ونحوها .
5) ومن النصوص القرآنية التي وردت على سبيل الإلزام في تنظيم بعض "حقوق الإنسان" المالية ، وبيان أصناف الناس المستحقين ؛ آية الصدقات ، وهي قوله تعالى :] إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم [().
فهذه الآية ذكرت المطلب الواجب وهو (الصدقات) ، ثم حددت الأصناف الثمانية التي تصرف لها هذه الصدقات ، ثم أكدت الإلزام بذلك التحديد بقوله تعالى
:] فريضة من الله [ : أي حكم مقدر لازم ، قسمة الله وفرضه على عباده ونهاهم عن مجاوزته() .
6) ومن الآيات العامة التي وردت في تأكيد حق المرأة -خاصة- على الرجل ؛ قول الله تعالى :] ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف [() ، والمعنى: أي للنساء على الرجال من الحق ،مثل ما للرجال عليهن ،فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف().
إن تلك النصوص القرآنية وغيرها ، إضافة إلى أضعافها من النصوص التفصيلية الواردة في السنة النبوية ، تؤصل بمجموعها مفهوم "حقوق الإنسان" في الإسلام ، كما أنها تحدد هذه الحقوق وتبين أنواعها وتفصل أحكامها ، وأقسام الناس بالنسبة لها ، كما سيأتي تفصيله